ملايين.. مبعثر في أقطار الأرض، في مكتبات عامة
أو خاصة، وما زال الشطر الأكبر منه مجهولاً
لوجوده في مكتبات غير مفهرسة، فأمام بعثرة
المخطوطات العربية، تبقى الدراسات المتعلقة
بنواحي الحضارة العربية ناقصة.
لهذا كله فكرت جامعة الدول العربية في إنشاء
معهد المخطوطات ليجمع أكبر عدد ممكن من صور
المخطوطات النادرة المبعثرة في العالم، ويضع هذه
المصورات تحت تصرف العلماء في مقر المعهد،
وليفهرس المكتبات العامة والخاصة، التي تحوي
مخطوطات غير مفهرسة، حيثما كانت وينشر هذه
القوائم، ثم يقوم بنشر المخطوطات محققة، وليكون
بعد ذلك مركزًا علميًا للتعاون العلمي بين
العلماء والمؤسسات العلمية في العالم في سبيل
خدمة المخطوطات العربية والتعريف بها وتبادل
المعلومات عنها.
تلك أهداف المعهد التي حددها قرار مجلس جامعة
الدول العربية في 4/4/1946 وكان المعهد عند
إنشائه تابعًا للدائرة الثقافية بالجامعة.
مر معهد المخطوطات على مدى نصف قرن تقريبًا
بمراحل عدة، ليس بينها حدود فاصلة أو قاطعة
تمامًا، ذلك أن نهر العمل كان يجري في مجرى
واحد، وعلى الرغم من ذلك فقد كان لكل مرحلة طابع
خاص.
مراحل أربع
فالمرحلة
الأولى
يمكن أن نسميها مرحلة جمع التراث، وهي تمتد
من عام 1946 إلى عام 1954 وتركز العمل
خلالها على جمع التراث المخطوط المبعثر داخل
الوطن العربي وخارجه من خلال بعثات أوفدها
المعهد إلى أماكن وجود المخطوطات، لتقوم
بانتقاء الفريد منها وتصويره، ومن
|
|
خلال عمل هذه البعثات تشكلت الحصيلة الأولى من
مصورات المعهد من المخطوطات.
وجاءت
المرحلة الثانية
لتحدد ملامح عمل المعهد؛ وهي تبدأ مع عام 1955،
وفيها انفصل المعهد عن الدائرة الثقافية
للجامعة، وعين له مجلس أعلى من كبار العلماء في
العالم العربي، وانتُخب الدكتور طه حسين رئيسًا
له. وفي هذه المرحلة انتشر خبر المعهد، وطار
صيته، في الدوائر الثقافية، في الشرق والغرب،
وعرفه الباحثون والدارسون، كما عرفته الجامعات
والمؤسسات المعنية بالتراث العربي داخل الوطن
وخارجه.
وعمر
المرحلة الثالثة
عقدان يمتدان بين عامي 1970 و1990، ومارس فيها
المعهد عمله من ثلاث عواصم عربية القاهرة ثم
تونس فالكويت فالقاهرة مرة أخرى، والحد الفاصل
الذي بدأت منه هو ذلك القرار الذي صدر بإلحاق
المعهد بالمنظمة العربية للتربية والثقافة
والعلوم.
وتمثل
المرحلة الرابعة
من عمر معهد المخطوطات إرهاصات المستقبل؛ فقد
وضع المعهد خطة محكمة لإنقاذ ما هو معرَّض للتلف
من ذخيرة المعهد من المخطوطات، من ناحية، وتجديد
ما أصبحت الحاجة ملحة لتجديده، قبل أن يصل إلى
مرحلة يحتاج فيها إلى إنقاذ من ناحية أخرى،
وإدخال الحاسب الآلي لفهرسة مقتنيات المعهد
وخدمة الباحثين من خلاله.
تراث نادر
24 ألف مخطوطة يمتلكها معهد المخطوطات
العربية مصورة من كبريات مكتبات العالم، تراث
ندر أن يتوفر في أي مكان آخر، فمن مصر صور
المعهد مخطوطات من دار الكتب المصرية؛ ومنها:
مخطوط درر الحكم لأبي منصور الثعالبي المتوفَّى
سنة 429 هجرية. ومن مكتبة الجامع الأزهر التي
تضم دررًا نادرة من المخطوطات؛ منها: شرح فصيح
ثعلب لأبي منصور الحيان وهو مخطوط من القرن
الرابع الهجري.
ومن المغرب صورت بعثات المعهد دررًا مغربية من
مكتبات الخزانة الملكية وجامعة القرويين بفاس
والخزانة العامة بالرباط، ومنها مخطوط إعراب
القرآن الكريم لأبي إسحاق الزجاج وهو مخطوط يعود
للقرن الرابع الهجري، وعطرنامة وهو مخطوط نادر
توجد صوره بالمعهد وهو من مكتبة آيا صوفيا
بإستنبول، وقد وضع المعهد في خططه المستقبلية
تصوير درر التراث العربي المخطوط بتركيا التي
تعتبر خزائن المخطوطات بها أثرى خزائن التراث
المخطوط العربي.
لم يترك المعهد مكانًا في العالم به مخطوطات
نادرة إلا صور منها فتوجهت بعثاته إلى: السعودية
واليمن وعمان وسوريا والمغرب وليبيا وأوزبكستان
وإيطاليا والبوسنة والهرسك، ومن خلال هذه
الحصيلة من التراث المخطوط يقدم المعهد خدماته
للباحثين العرب والأجانب بتصوير المخطوطات،
وبمساعدتهم في الحصول عليها من المكتبات
العالمية، ولعل زيارة واحدة لهذه المؤسسة
العريقة سنلحظ من خلالها أنها مجمع لخبرة
الباحثين العرب.. المحققين للتراث.. سواء من
العمالقة.. أو شباب الباحثين.
ويصدر المعهد منذ عام 1955 مجلة علمية لنشر
الأبحاث المتعلقة بالمخطوطات والتعريف بها، وهي
مجلة نصف سنوية صدر منها إلى الآن 39 مجلدًا،
كما يصدر نشرة أخبار التراث العربي للتنسيق بين
الباحثين والعاملين في مجال تحقيق التراث.
شارك معهد المخطوطات في إحياء الكثير من
المخطوطات العربية ونشرها، إذ أخرج 27 كتابًا
محققًا، تنوعت موضوعاتها تنوعًا كبيرًا، ففي
اللغة صدر عنه صفة السرج واللجام لابن دريد،
وغوامض الصحاح للصفدي، ومجمل اللغة لابن فارس،
وخلق الإنسان لأبي محمد الحسن بن أحمد، وتفسير
رسالة أدب الكاتب للزجاجي، والمحكم والمحيط
الأعظم في اللغة لابن سيده الأندلسي، أما الشعر
ومعانيه فقد نشر المعهد عددًا من أشهر دواوينه
ومنها ديوان المثقب العبدي، وديوان الملتمس
الضبعي، وديوان عمرو بن قميئة وشعر تغلب في
الجاهلية.
وفي ميدان التراجم ظفرت المكتبة العربية بثلاثة
كتب هي: سير أعلام النبلاء للذهبي، وذيل الدرر
الكامنة، والآثار الرفيعة في مآثر بني ربيعة.
وهناك كتابان في النحو هما: شرح المسائل المشكلة
للفارقي، والنكت في تفسير كتاب سيبويه للشمنتري،
وفي الأسلحة: الأفيق في المنجنيق، وفي الطب:
المنصوري للرازي، وفي الأدب: مختار الأغاني في
الأخبار والتهاني.
لقد قام معهد المخطوطات سنة 1946، وفي ذلك
الزمان الرخي الهانئ "إذ الناس ناس والزمان
زمان"، وعلماء العرب يفدون ويروحون، يعطون
ويأخذون، ووجد المعهد من أهل العلم العون.
رجال المعهد
كان أول مدير لمعهد المخطوطات هو الدكتور
يوسف بن رشيد العش (سوري)، ولد في طرابلس
بالشام سنة 1911، وتوفى بدمشق سنة 1967، وهو
أول من تخصص في تنسيق الكتب والوثائق في
سورية، انتدب لإدارة معهد المخطوطات عقب |
|
إنشائه،
فمكث به نحو خمس سنوات، شارك في إرساء أساسه
ووضع قواعده، وخرج في بعثاته الأولى، فكان له
فضل المشاركة في انتقاء مجموعاته الأولى من
المخطوطات.
وشارك في نشاط المعهد، عالم مغربي محقق هو محمد
بن تاويت الطنجي، وهو أول من فهرس محتويات
المعهد من المخطوطات، وقد اختارته جامعة أنقرة
أستاذًا بها لخبرته النادرة بالتراث العربي
المخطوط.
وبرز من رجال المعهد على امتداد تاريخه ونشاطه
رجلان اثنان كان لهما الأثر الضخم في إقامة صرح
المعهد، وكان المعهد في أيامها شعلة نشاط وخلية
نحل ومنارة علم، الأول وهو سوري تولى إدارة
المعهد خلال الخمسينيات، وكان خبيرًا بالمخطوطات
وهو العلامة الدكتور/
صلاح الدين المنجد
الذي جلب للمعهد
نفائس ونوادر، وكانت له مهابة عند الناس وقدر،
لاشتغاله بعلم المخطوطات وتحقيق الكتب، وطارت
للمعهد في أيامه شهرة، وقصده الناس وهذه من
السنن التي لا تتخلف، يكسب الرئيس النابه العارف
عمله مهابة مستمدة من مهابته هو، وموصولة بها.
وأما الثاني
محمد رشاد عبد
المطلب فكان آية
في معرفة الكتاب العربي المخطوط والمطبوع،
يعرفهما كما يعرف الناس آباءهم، وكان يشم رائحة
المخطوط النفيس من مكان بعيد، ويقع عليه كما يقع
الصائد على فريسته لا يفلتها، وقد عمل بمعهد
المخطوطات منذ إنشائه سنة 1946 إلى حين وفاته
سنة 1975 وكثير من نفائس مقتنيات المعهد من صيده
هو رحمه الله.
تلك كانت رحلة تلك المؤسسة العريقة ومجهوداتها
في خدمة تراث أمتنا، فالماضي عرفناه، والحاضر
نشاهده بأعيننا، والمستقبل يخطط له خبراء الأمة،
ليكون هذا المعهد شاهدًا على عظمة أمتنا من خلال
تراثها المخطوط .
المصدر :
http://www.islamonline.net/iol-arabic/dowalia/fan-19/alrawe.asp
|